فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنفال الآيات 41- 42]:

{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شيء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}

.اللغة:

{العدوة} بضم العين ويجوز كسرها وفتحها: شط الوادي وشفيره، سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها، أي منعته، وفي مختار الصحاح: العدوة بضم العين وكسرها: جانب الوادي وحافته، وقال أبو عمرو: هي المكان المرتفع.
{الدنيا} و{القصوى} تأنيث الأدنى والأقصى، وجاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو مع أن كلتيهما فعلى من بنات الواو لأن القياس قلب الواو ياء كالعليا، وأما القصوى كالعود في مجيئه على الأصل وقد جاءت القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر، هذا والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة.
{الرَّكْبُ} في القاموس: والركب ركبان. الإبل وهو اسم جمع لراكب أو جمع له وهم العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل والجمع أركب وركوب.

.الإعراب:

{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شيء} أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وما موصولة ولذلك نصبت في الرسم من، ولكن ثبت وصلها في خط بعض المصاحف وثبت فصلها في بعضها الآخر، وهي اسم أن، وجملة غنمتم صلة ومن شيء في محل نصب حال من عائد الموصول المقدر والمعنى: ما غنمتموه كائنا من شيء أي قليلا كان أو كثيرا.
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وفتحت همزة أن لأنها وما في حيزها خبر مبتدأ محذوف تقديره فحكمه أن للّه خمسه، والجار والمجرور خبر أن المقدم وخمسه اسمها المؤخر والتقدير: فإن خمسه للّه، ويجوز أن تكون أن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف تقديره فحق أو فواجب أن للّه خمسه، وللرسول وما بعده عطف على قوله للّه وسيأتي في باب الفوائد تفصيل القسمة.
{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ} إن شرطية وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فاعلموا ذلك، وجملة آمنتم خبر كنتم وباللّه جار ومجرور متعلقان بآمنتم وما عطف على اللّه وجملةأنزلنا صلة وعلى عبدنا جار ومجرور متعلقان بأنزلنا ويوم الفرقان ظرف متعلق بأنزلنا أيضا والمراد به يوم بدر الفارق بين الحق والباطل.
{يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ} الظرف بدل من الظرف الأول، وجملة التقى الجمعان مضافة للظرف {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ} الواو استئنافية واللّه مبتدأ وقدير خبره وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بقدير.
{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى} الظرف بدل من يوم الأول أو الثاني وأنتم مبتدأ وبالعدوة خبر والجملة مضافة للظرف والدنيا صفة للعدوة وهم بالعدوة القصوى عطف على سابقتها.
{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} الواو حالية من الظرف وهو قوله: {بالعدوة القصوى} ويجوز أن تكون عاطفة على {أنتم} لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم، والركب مبتدأ وأسفل نصب على الظرف في محل رفع على الخبرية وسيأتي مزيد بحث له في باب الفوائد. ومنكم جار ومجرور متعلقان بأسفل لأنه في الأصل اسم تفضيل استعمل بمعنى صفة لمكان محذوف أقيم مقامه، وللزمخشري فصل في تعليل هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين سنورده في باب الفوائد لأنه بلغ الذروة في التنقيب عن أسرار الكتاب العزيز.
{وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ} الواو عاطفة ولو شرطية وهي الدالة على الامتناع وتواعدتم فعل الشرط واللام الرابطة واختلفتم جملة لا محل لها لأنها جواب الشرط وفي الميعاد متعلق باختلفتم، أي امتنع اختلافكم في موعد الخروج إلى القتال لامتناع تواعدكم وإعلام بعضكم بعضا بالخروج للقتال لأنكم قد تضعفون عند ما تعلمون شكيمتهم ومنعة مكانهم مما يؤيد فصل الزمخشري البديع.
{وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا} لكن حرف استدراك مهمل وليقضي اللام للتعليل وهي مع مجرورها المؤول متعلقان بمحذوف أي جمعكم بغير ميعاد واللّه فاعل وأمرا مفعول به، وجملة كان مفعولا صفة لأمرا وكان واسمها المستتر وخبرها.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} يجوز تعليق ليهلك بما تعلق به ليقضي أي فهو بدل منه، ويجوز أن يتعلق بمفعولا، ويهلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ومن اسم موصول فاعل وجملة هلك صلة وعن بينة حال.
{وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} عطف على الجملة السابقة، وحي أصلها حيي أدغمت الياء بالياء.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وسميع خبر أول لإن وعليم خبر ثان.

.البلاغة:

في قوله: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} إلى قوله: {ويحيا من حي عن بينة} فن الاستدراك فإن الحق سبحانه أخبر عن الأمر الواقع بخبر أخرجته الفصاحة مجرى المثل، وذلك أن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لما أخبرته عيونه بقفول ركب قريش من الشام إلى مكة على الجادة المعروفة التي لابد لسالكها من ورود بدر، أمر أصحابه بالخروج وخرج معهم يريد العير، وكان وعد اللّه قد تقدم له بإحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير، وبلغ أبا سفيان، وهو على الركب، خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمر الركب أن يأخذ على سيف البحر، ومضى أبو سفيان على وجهه لمكة، فاستنفر قريشا، فخرجوا إلى بدر ليشغلوا وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تتبّع العير، فصادفوه ببدر، وهو يظن أن الركب يمر على بدر، فوقعت اللقيا من غير ميعاد، فأخبر اللّه سبحانه بموضع المسلمين من بدر وموضع المشركين منه بقوله: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} أي القريبة، {وهم بالعدوة القصوى}: أي البعيدة، {والركب أسفل منكم} لأن سيف البحر في غور، وبدر في نجد بالنسبة إليه، وأراد أن يخبر عن وقوع اللقاء بغير ميعاد، وعدل عن لفظ المعنى إلى لفظ الارداف فلم يقل فالتقوا من غير ميعاد، بل قال: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} لخروج لفظ الإرداف مخرج المثل ليكون أسير وأشهر ولو وقع الاقتصار على هذا المقدار لاحتمل أن يقال: فما الحكمة في حرمان اللّه رسوله والمسلمين هذه الغنيمة الباردة لأجل منها. وهي فتح مكة واستئصال أموال أهلها، فإن اختياره لهم لقاء النفير دون العير ليقتل حماة مكة وصناديدها فيتمكن المسلمون من فتحها وكذلك كان، وقد كان مراد المسلمين لقاء العير دون النفير بدليل إخباره سبحانه عنهم بذلك في قوله: {ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} يعني العير، فإن ذات الشوكة: النفير، لأن الشوكة السلاح، فأرادوا هم ذلك، وأراد اللّه خلافه لعلمه بالعواقب، فأوقع اللقاء من غير ميعاد لهذه المصلحة، وأخرج الإخبار به مخرج المثل لما بينّا من فائدة ذلك، ثم قوى دليل الكلام بذكر العلة في تقويت تلك المصلحة الظاهرة، حيث قال بلفظ الاستدراك: {ولكن ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا}، ثم فصل ما أجمله في الاستدراك بقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، فاتضح الإشكال، وارتفع ما قدر من الاحتمال وأبان عن المعنى أحسن بيان، فحصل في هذه الكلمات أربعة عشر نوعا من البلاغة وهي: الإيجاز، والترشيح، والإرداف، والتمثيل، والمقارنة، والاستدراك، والإدماج، والإيضاح، والتهذيب، والتعليل، والتنكيت، والمساواة، وحسن النسق، وحسن البيان.

.الفوائد:

1- لم نجر في هذا الكتاب على الخوض في المسائل العلمية والفقهية إلا نادرا، وإلا فيما له علاقة بالاعراب أو البيان، وقد خاض العلماء كثيرا في كيفية تقسيم الخمس ونلخص آراء الأئمة بما لا يخرج عن أسلوبنا.
قسمة الخمس عند أبي حنيفة أنها كانت في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول اللّه، وسهم لذوي قرباه، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل.
أما عند الشافعي فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول اللّه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، كعدة الغزاة من السلاح والكراع ونحو ذلك، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، والباقي للفرق الثلاث.
وأما عند مالك بن أنس فالأمر مفوض إلى اجتهاد الإمام، إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. وهناك أقوال أخرى يرجع إليها في المطولات.
2- يقع الخبر ظرفا نحو: {والركب أسفل منكم}، وجارا ومجرورا نحو الحمد للّه، وشرطهما أن يكونا تامّين كما مثل، فلا يجوز زيد مكافا، ولا زيد بك، لعدم الفائدة ويتعلقان بمحذوف وجوبا هو الخبر، واختلف في تقديره فقيل تقديره استقر أو مستقر.
قال ابن هشام: في المغني: والحق عندي أنه لا يترجح تقديره اسما ولا فعلا بل بحسب المعنى. وقال ابن مالك في الخلاصة:
وأخبروا لظرف أو بحرف جر ناوين معنى كائن أو استقر وهناك ملاحظات هامة نلفت إليها الانتباه:
آ- يخبر بالمكان عن أسماء الذوات والمعاني نحو: زيد خلفك والخير أمامك.
ب- يخبر بالزمان عن أسماء المعاني فقط نحو: الصوم اليوم والسفر غدا.
ج- لا يخبر بالزمان عن أسماء الذوات فلا يقال: زيد اليوم، والفرق أن الأحداث أفعال وحركات، فلابد لكل حدث من زمان يختص به بخلاف الذوات.
د- إذا حصلت فائدة جاز الإخبار بالزمان عن الذوات، كأن يكون المبتدأ عاما والزمان خاصا، باضافة أو وصف، نحو: نحن في شهر كذا، فنحن مبتدأ وهو عام لصلاحيته في نفسه لكل متكلم إذ لا يختص به متكلم دون غيره، وفي شهر كذا خبره، وهو خاص بالمضاف إليه، ونحن في زمن طيب اختص بالوصف.
ه- وأما نحو قولهم: الورد في أيار واليوم خمر والليلة الهلال، فالتأويل فيها: خروج الورد، واليوم شرب خمر، والليلة رؤية الهلال، فالإخبار في الحقيقة إنما هو عن اسم المعنى لا عن اسم الذات.
3- وقد آن أن نورد فصل الزمخشري بحروفه وفيه يسمو هذا الامام إلى أبعد أفق، ويبرهن على قوة ملاحظته وسداد تفكيره قال:
فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين، وان العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه: الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من اللّه سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل أي رخوة، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشفقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذّبّ عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهدهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز اليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط همهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج.